الحديث في رحاب الآية المباركة يكون تحت عنوان الوجاهة بين معادلات المادة والروح، وهذا الحديث يحتاج منا الوقوف في محطات ثلاث:
1- المحطة الأولى: وجاهة النبي عيسى (ع) في الدنيا والآخرة.
الله سبحانه وتعالى يصف نبيه عيسى على نبينا وآله وسلم بالوجاهة فيقول: (وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)، وفي هذه المحطة نتحدث عن شقين:
- الشق الأول: معنى الوجاهة.
- الوجاهة كما يقال علماء اللغة مشتقة من الوجه وهذا الاشتقاق له عدة دلالات:
- الوجه هو أبرز الأعضاء وأعلاها وأرفعها في الجسد، وكذلك الوجيه هو الشخصية البارزة العالية الرفيعة في قومها وبين مجتمعها.
- الوجه يأتي بمعنى الصحة والاستقامة ولذلك إن دخلت في نقاش مع طرف من الأطراف ولم تقتنع منه تقول كلام لا وجه له أي لا صحة ولا استقامة له؛ لذلك ينبغي للوجيه أن تكون قراراته مدروسة.
- من معاني الوجه هي الوجهة: المأمون سأل الإمام الرضا (ع) عندما دس إليه السم إلى أين تذهب يا أبا الحسن ؟ فقال إلى الوجهة التي وجهتني إليها.
لذلك الوجيه يكون موئلا ومقصدا لضعفاء قومه وعليه: على الوجيه أن يستثمر وجاهته في حل مشاكل قومه وفي تدبير أمورهم وقضاء حوائجهم،
الوجاهة لها ضريبة ومن الضرائب التي ألقيت على الوجيه أن يستثمر وجاهته في قضاء حوائج المؤمنين.
- الشق الثاني: معالم وجاهة النبي عيسى (ع) في الدنيا.
وجاهة النبي عيسى (ع) في الآخرة هي في طيلاات علم الغيب وعليه يكون الحديث عن معالم وجاهته في الدنيا:
- المعلم الأول: أتباع الديانة المسيحية.
كثيراً من زعماء ورئيس وملوك الدول الكبرى يصنفون أنفسهم على أنهم أتباع الديانة المسيحية وقد أجريت إحصائية في عام 2015م تثبت أن ثلث سكان العالم هم من أتباع المسيح (ع)، والمسيحية هي ثاني أكبر ديانة في العالم.
وكما نعلم أن في هذا الزمان لا تبرأ ذمة أحد إلا إذا آمن بما جاء بن دين النبي الأعظم محمد (ص) ونحن هنا في صدد بيان وجاهة النبي عيسى (ع) ليس إلا.
- المعلم الثاني: النبي عيسى (ع) لم يتذوق طعم الموت.
الله سبحانه وتعالى لم يذق النبي عيسى (ع) طعم الموت، والذين لم يتذوقوا طعم الموت قليلون هم إلياس والخضر وعيسى عليهم السلام.
- المعلم الثالث: انتخاب النبي عيسى (ع) من بين 124 ألف نبي ليصلي خلف المهدي (ع).
النبي عيسى (ع) انتخبه الله تعالى لينزل آخر الزمان حتى يصلي خلف المهدي (ع).
عن رسول الله (ص): "فيلتفت المهديّ وقد نزل عيسى عليه السلام كأنّما يقطر من شعره الماء، فيقول المهديّ (عليه السلام): تقدّم صلّ بنا، فيقول عيسى (عليه السلام): إنّما أقيمت الصّلاة لك، فيُصلّي عيسى خلف رجلٍ من ولدي".
2- المحطة الثانية: الوجاهة بين المعادلات المادية والمعادلات الروحية.
الوجاهة الخاضعة للمعادلات المادية معرضة للانتهاء والإضمحلال، وأما الوجاهة الخاضعة للمعادلات الروحية فلا تنتهي ولا تضمحل.
الوجاهة الخاضعة للمادة هي أن تكون ثرياً في قومك وعشيرتك ولا تفتح من خلال ثراؤك نافذةً إلى الجنة،
وعليه ينبغي منك أن تفتح تلك النافذة.
وهنا نذكر الوجيه المرحوم الحاج حسن العالي الذي يذكره الناس بكل خير ويثنون على كرمه لأنه فتح من خلال ذلك الثراء بابا إلى الجنة.
أحد السادة المعممين من الدول العربية المجاورة يقول كنت جالسا في يوم من الأيام على قبر أمي أقرأ سورة الفاتحة وإذا بجنازة أقبلت نحوي يحملها ما بين سبعة إلى عشرة مشيعين ولا أعلم سبب اتجاههم نحوي ولما أتوا قالوا سيدنا هل تتكرم بالصلاة على صاحب الجنازة ؟ قال في الخدمة ولكن هل فيكم أحد من أولاده حتى يأذن لي بالصلاة عليه ؟ قالوا أن هذا الرجل كان من أكابر أثرياء منطقتهم وكان مجلسه يزدحم بالزوار ولكن أولاده لم يحضروا مراسم تشييعه وهم من أوكلوا إلينا أن نشيعه.
هذه الوجاهة وجاهة دنيوية اضمحلت بمجرد الموت فأين أولئك الزوار وأولئك الناس الذين كانت تزدحم بهم أروقة مجلسه ؟!.
بينما إذا كانت الوجاهة خاضعة للمعادلات الدينية الروحية الإلهية فإنها باقية لا تضمحل ولا تزول وعليه نذكر عدة نماذج من هذه الوجاهة:
- النموذج الأول: وجاهة العلم.
الناس موتى وأهل العلم أحياء.
الثلثان من نسبة الديانة المسيحية كلها تابعة إلى البابا الفاتيكان ويعتبرون أباهم الروحي!
ما الذي يدعو بابا الفاتيكان أن يزور رجلا يبطن في زقاق من أزقة النجف الأشرف ؟
ذلك الرجل الذي لم يبدل عباءته لسنوات ولا يملك بيتنا في النجف الأشرف ؟!
المرجع السيد السيستاني دام ظله لا يملك بيتا والبيت الذي يعيش فيه هو بيت مستأجر ولا زال يدفع أجاره إلى الآن.
السيد السيستاني ليس ثريا لكنه يملك وجاهة في العلم دعت رجلا يتبعه الكم الكثير من المسيحيين إلى زيارته والجلوس على كرسي لم يجلس على مثله، وقد قال الفاتيكان: لقد تمثل المسيح (ع) بن مريم في شخص سماحة السيد وقال عنه إنه نور.
الآخوند الخراساني توفي عام 1329 هـ فدفن في قبره، وبعد ما يقارب 46 عام دفنت ابنته وحفروا قبرا بالقرب من قبره وفي أثناء الحفر انهدم الفاصل فرأوا جسد الآخوند الخراساني لم يتغير وكأنه مات للتو، كأنه نائم لكنه لا يتنفس، وهذا إنما دل فإنما يدل على وجاهته الخاضعة للمعادلات الروحية.
- النموذج الثاني: وجاهة الخلق الكريم.
بعض الناس على مستوى المال تجده فقيراً ولكن الكل يتحدث عن وجاهته.
عن أمير المؤمنين (ع): "إن أبي ساد الناس فقيرا، وما ساد فقير قبله".
أبو طالب (ع) كان سيدا ووجيها من وجهاء قريش رغم فقره ولما تقرأ عنه تجده أنه كان يتحلى بالخلق الكريم والكرم الكبير فإذا طبخ أبو طالب امتنع الآخرون عن الطبخ ولكن إذا طبخ غيره طبخ الآخرون القاصي والداني كان يمتنع عن تلبية دعوة في عرض دعوة أبو طالب (ع).
- النموذج الثالث: الوجاهة بالحسين (ع)
في زيارة عاشوراء نقول اللهم اجعلني عندك وجيها بالحسين عليه السلام في الدنيا والآخرة.
الوجاهة بالحسين (ع) مطلب عزيز لا يتوفر عليه كل أحد، ولذلك قالوا أن هناك ثلاثة عوامل متى ما توفر عليها المؤمن أمكن له أن يكون وجيها بالحسين (ع).
3- المحطة الثالثة: العوامل المؤهلة لأن يكون المؤمن وجيها بالحسين (ع).
- العامل الأول: العلاقة القلبية بالحسين (ع)
أنت تحب الحسين عليه السلام ولكن بأي مقدار وبأي درجة وفي أي رتبة ؟
حبك له ربما يجرك إلى المأتم ولكن هل حبك تستطيع من خلاله أن تضحي بروحك ؟ أم أن حبك يقصر عن التضحية إذا أراد إمامك التضحية؟.
لنا في قصة نافع بن هلال خير مثال للتضحية، عبدالرزاق المقرم يذكر في كتابه:
خرج الحسين (عليه السّلام) في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقّد التلاع والعقبات ، فتبعه نافع بن هلال الجملي ، فسأله الحسين عمّا أخرجه قال : يابن رسول الله أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي ، فقال الحسين: «إنّي خرجت أتفقّد التلاع والروابي ؛ مخافة أنْ تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون». ثمّ رجع (عليه السّلام) وهو قابض على يد نافع ويقول: «هي هي والله ، وعد لا خلف فيه». ثمّ قال له: «ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟» فوقع نافع على قدمَيه يقبّلهما ويقول: ثكلتني اُمّي، إنّ سيفي بألف وفرسي مثله ، فوالله الذي مَنّ بك عليَّ ، لا فارقتك حتّى يكلاّ عن فرّي وجرّي.. ».
أي حب للحسين (ع) استقر في قلب نافع ؟! أوهل نملك علاقة عاطفية قلبية بالحسين (ع) كما كان يمتلكها نافع؟
لو بعث الحسين (ع) وقال هلموا إلى نصرتي أكنا من المبادرين إلى نصرته ؟!.
- العامل الثاني: العلاقة المعرفية العقائدية.
بأي مقدار أعرف الحسين وهل أنت لوحدك تحب الحسين ؟
المسيحيون كتبوا في الحسين وقال بعضهم: لو كان الحسين لنا لنصبنا له في كل بلدة منبرا، فأحبه البوذيون وتعلق به المسيحيون.
«مَنْ زَارَ قَبْرَ الْحُسَيْنِ عليه السلام عَارِفاً بِحَقِّهِ كَانَ كَمَنْ زَارَ اللهَ فِي عَرْشِه».
علينا أن نعرف من هو الحسين (ع) وما هو مقام الحسين وما هو حق الحسين.
المرجع السيد محمد سعيد الحكيم يذكر شيئاً من مشاهداته في مسيرة الأربعين فيشير ويقول: شاهدنا ألوية لكفار لا يؤمنون بالله من مختلف الجاليات الأجنبية يمشون لزيارة الحسين (ع).
وعندما سألوا تلك الجالية لماذا تمشون مع الزائرين؟ فقالوا أننا قرأنا مأساة الحسين (ع) فتأثرنا تأثراً إنسانيا لما وقع عليه من حرق الخيام وسبي النساء.
هذا الحب يشكرون عليه لكنه حب مشاعري إنساني وليس حبا نابعا من معرفة عقلية عقائدية بالحسين كما هو الحال عند نافع بن هلال.
- العامل الثالث: العلاقة العملية.
أنت تحب الحسين (ع) وتعرف حقه وتعتقد بأنه إمام مفترض الطاعة، فما الذي قدمته للمأتم وما الذي قدمته للموكب ؟ وما هو دورك في استعدادات استقبال شهر محرم الحرام ؟
هل تكتفي بالتفرج وحسب ؟!
بعض الناس لا هو يرحم، ولا يترك رحمة الله تنزل،
يكون دوره الانتقاد، والانتقاد لا يمنع منه أحد ولكن له وقت وله سبل وله أهداف.
إذا كان انتقادك انتقادا بناء فمرحبا به وأما إذا كان انتقادك لأجل الانتقاد وكان هداما لا بناء وكان دور انتقادك فقط في هذا الإطار في المأتم والحسينية فهذه مشكلة تقتضي منها أن تراجع نفسك.
عندما يطلب منك أن ترشح نفسك كنت أول الهاربين والمعتذرين وعندما يتأسس مجلس الإدارة قمت بممارسة دور الانتقاد،
الانتقاد أمر مطلوب وهو حق مكفول لكل شخص ولكن ليكن الانتقاد في وقته الصحيح وليكن بأسلوبه وكيفيته وبطريقته الصحيحة وليكن بغرض تحقيق أهداف شريفة وسامية.