الحديث في رحاب الآية المباركة سيكون بعنوان المتسلقون والانتحاليون وأسباب تراجع الأمم.
من يتتبع الأحداث التاريخية عند كل أمة من الأمم يجد أن الأسباب الفاعلة في تراجع الأمم هو وجود تصنيف ثلاثي،
هذا التصنيف الثلاثي عبارة عن ثلاث فئات من المجتمع لا تخلو منها أمة من الأمم ولا حضارة من الحضارات،
وهذه الفئات الثلاث تشكل عاملاً من تقهقر الأمم والحضارات وتراجعها.
- الفئة الأولى: الانتحاليون.
هم جماعة من الناس يفتقرون إلى اللياقات اللازمة والمستويات المطلوبة ومع ذلك يعطون أنفسهم طابع القيادة الروحية والدينية ويدعون الناس،
انتحلوا المناصب الدينية من غير أن يكونوا مؤهلين لذلك وهم يحتاجون إلى من يدعمهم ومن هنا يأتي إلى الفئة الثانية التي تدعم الانتحاليون.
- الفئة الثانية: الذوقيون الذين يأخذوا من الحقيقة شيئا ومن غير الحقيقة أشياء بما يتناسب أذواقهم ومشتياتهم.
هؤلاء الذوقيون يدعمون الانتحاليون لأن كثيرا من تلك الدعاوى تتناسب مع مشتياتهم،
وفئة أخرى هي فئة المتسلقين الوصوليين الذين يجدون دعم دعاويهم فرصة لتحقيق مصالهم.
- الفئة الثالثة: البسطاء السذج وهم وقود لكل دعوى فتنة.
البسطاء والسذج فكرهم هكو فكر التقاطي بعيد كل البعد عن الأصالة وتجدهم ينعقون مع كل ناعق.
ومن هنا نذكر نموذجين من التاريخ.
- النموذج الأول: فرقة الواقفية
بعد استشهاد الإمام الكاظم (ع) خرجت جماعة أسست فرقة عرفت بفرقة الواقفية، ومن المعلوم أن الإمام قضى شطرا من عمره في السجون فالبعض قد ذكر ان عدد السنوات التي قضاها الإمام الكاظم في السجن وصلت إلى 14 عام !
كيف كان الشيعة يتواصلون مع الإمام وهو في السجن ولمن كانوا يسلمون الحقوق الشرعية؟!
نصب الإمام الكاظم عليه السلام وكلاء له آنذاك، ولما اشتهد الإمام الكاظم عليه السلام تجمعت عند بعض الوكلاء أموال كبيرة من الحقوق الشرعية والبعض من أولئك الوكلاء وسوس له الشيطان فقالوا أن الإمام الكاظم (ع) لم يمت وأنه هو المهدي الذي يأتي في آخر الزمان!.
الذي كان في سجن السندي بن شاهك من هو ؟ قالوا خيل لسجانيه أنه موسى بن جعفر.
فرقة الواقفية لها رؤوس ومن أكبر رؤوسها يزيد بن مروان القندي، عثمان بن عيسى الرواسي، وعلي بن أبي حمزة البطائني.
هؤلاء وغيرهم أنكروا الإمام الرضا (ع)،
الشيخ الطوسي شيخ الطائفة قال أن عدد من كانوا يحسبون على الإمام الكاظم (ع) هو 274 شخص، منهم 64 مالوا إلى الفرقة الواقفية.
والفرقة الواقفية أحدثت شرخا في الوسط الشيعي في ذلك الزمان.
الواقفية حاولوا مع يونس بن عبدالرحمن الذي كان يدعو إلى إمامة الرضا (ع) بإنكار إمامته (ع) وعرضوا عليه عشرة آلاف دينار، ولأنه صاحب بصيرة قال لو أعطيتموني الدنيا بما فيها ما تركت علي بن موسى الرضا (ع).
وهنا نذكر شاهدا مع الشواهد.
الميرزا القمي يسمى في الحوزة بصاحب القوانين، وقد قضى شطرا من عمره في النجف الأشرف حتى وصل إلى مستوى الاجتهاد ولما انتهى من دراسته في النجف الأشرف ووصل إلى ذلك المستوى الرفيع رجع الشيخ الميرزا القمي إلى قريته.
في تلك الفترة كان هناك شيخ قروي لديه علم يسير وعلمه اليسير كان سببا لمحبة الناس وقدومهم إلى ذلك الشيخ القروي.
- يذكر أنه كان في تلك القرية شيخ قرويّ ثَقُل عليه وجود الميرزا القمي ، فأراد الاستخفاف به ، فجمع أهل القرية وطلبوا حضور الميرزا ، فقال هذا الشيخ لأهل القرية اطلبوا من الميرزا أن يكتب حيّة ، فكلّموه في ذلك ، فكتب الميرزا حيّة ، ورسم ذلك الشيخ صورة حيّة ، فأرى ذلك الشيخ أهل القرية الخطّين وقال لهم : انظروا أيّهما الحيّة ، ما كتبت أنا أو ما كتب الميرزا؟ ولما كان أهل القرية أُميين لا يعرفون الكتابة رجّحوا ما رسمه الشيخ ، فتأثّر الميرزا من ذلك. فانتقل بعدها إلى أصفهان وأخذَ يدرّس في مدرسة (كاسهكران) مدّة من الزمان ، فألحق به بعض علماء الدنيا أذى حسداً ، لما رأى فيه من آثار الرشد.
- النموذج الثاني: زينب الكذابة.
في زمن المتوكل العباسي ظهرت امرأة ادعت أنها زينب بنت علي بن أبي طالب فانشغل الناس بكلامها فصارت دعواها حديث المجالس حتى وصل خبرها إلى بلاط المتوكل العباسي فقال ائتوني بها.
كانت زينب الكذّابة تزعم أنّها بنت علي بن أبي طالب فأحضرها المتوكّل و قال: اذكري نسبك، فقالت: أنا زينب بنت علي و أنّها كانت حملت إلى الشام فوقعت إلى بادية من بني كلب فأقامت بين ظهرانيهم، فقال لها المتوكّل: إنّ زينب بنت علي قديمة و أنت شابّة.
فقالت: لحقتني دعوة رسول الله (ص) بأن يردّ شبابي في كلّ خمسين سنة، فدعى المتوكّل وجوه آل أبي طالب، فقال: كيف يعلم كذبها؟
فقال الفتح: لا يخبرك بهذا إلّا ابن الرضا، فأمر بإحضاره و سأله فقال (ع): إنّ في ولد عليّ علامة قال: و ما هي؟
قال: لا تعرض لهم السباع فالقها إلى السباع فإن لم تعرض لها فهي صادقة، فقالت: يا أمير المؤمنين اللّه اللّه فيّ فإنّما أراد قتلي و ركبت الحمار و جعلت تنادي ألا أنّني زينب الكذّابة
و في رواية أنّه عرض عليها ذلك فامتنعت فطرحت للسّباع فأكلتها، فقال علي بن الجهم: جرّب هذا على قائله، فاجيعت السباع ثلاثة أيّام ثمّ دعى الإمام (ع) فلمّا رأته لاذت و تبصبصت بأذانها فلم يلتفت الإمام إليها و صعد السقف و قعد عند المتوكّل ثمّ نزل من عنده و السباع تلوذ به و تبصبص حتّى خرج (ع): و قال: قال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) حرّم لحوم أولادي على السباع.
هنا عدة فوائد من هذا النموذج:
- الفائدة الأولى: التنصيف الثلاثي الذي ذكرناه متوفر كله فالانتحاليون الذين يضفون على أنفسهم القيادة الروحية هي زينب الكذابة، والمتسلقون هم المتوكل العباسي ووزيره، والجهلاء الوقود لكل دعوة هم الحضور هناك.
- الفائدة الثانية: التعامل مع المضلين ليس دائما يكون من خلال النقاش والجدال، وإنما من خلال استخدام أسلوب الافحام المباشر وهو ما قام به الإمام الهادي (ع)
وهذا درس مهم لنا لأن بعض الناس لا ينفع معهم لا نقاش ولا جدال وإنما عليك أن تحصرهم في زاوية معينة واسلوب الافحام هذا أسلوب قرآني استخدمه النبي إبراهيم (ع) مع النمرود.
النمرود قام بحيلة، كان لديه سجينان فقتل الأول فقال أمته، وأطلق الثاني فقال أحييته وانطلقت هذه الحيلة على الجهلاء،
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
النبي تحداه بأن يأتي بالشمس من المغرب! وهذا هو أسلوب الافحام المباشر.
- الفائدة الثالثة: الأئمة عليهم السلام ربوا أتباعهم وتلامذتهم على فن المناظرة والجدال ومع ذلك هناك بعض المفاصل يتقضي الوضع فيها بأن يتصدى لها الإمام مباشرة ولا يوكل الأمر لغيره.
عرف عن الإمام العسكري عليه السلام أنه كان كثير الاحتجاب عن الناس، يحادثهم من خلف الحجاب لأنه يريد أن يمهد الناس للتعامل مع إمام غائب فكان التواصل عن بعد فلو ظهر الإمام لا يكون الحال بالنسبة إليهم حالا مستغربا.
في زمنه ظهر شخص يدعى بجاثليق كلما رفع يديه إلى السماء أمطرت! هنا تزلزت عقاد الناس فاضطر الإمام أن يخرج وأزال عظما من بين يديه كان عظم من عظام الأنبياء ولحرمة هذا العظم كان الجاثليق يرفع يديه فينزل الماء.
الإمام الهادي (ع) في قضية زينب الكذابة لم يرسل أحدا من طلابه وإنما تصدى الأمر هو بشخصه الشريف.
- الفائدة الرابعة: البعض يتصور أن قضية زينب الكذابة قضية عفوية ولكن في الحقيقة ومن خلال عدة قرائن ومطعيات نجد أن القضية مدبرة ومخططة من قبل المتوكل وأمه ووزيره وزينب الكذابة.
- هل يصدق عاقل أن تبقى امرأة إلى عمر يصل إلى 160 عاما ؟ الكل لم يصدق إلا أن المتوكل العباسي كان يصر على تصديقها.
- لماذا تدخل الوزير وقال للمتوكل قل للإمام أن يخرج كي لا يفتضح أمرنا ؟
- لماذا تدخلت أم المتوكل واستوهبت تلك المرأة لولدها؟.
- الفائدة الخامسة: خصوصية أجساد أهل البيت عليهم السلام: من ضمن خصوصياتها أن السباع لا تنال منها شيئا ومن ضمنها أيضا أنها كانت مباركة، وأيضا أجسادهم باققية على جلالتها وعظمتها وإن فارقتها الأرواح.