الحديث في رحاب هذه الآية المباركة يكون تحت عنوان وقفة على الإعجاز القرآني، نتحدث في ثلاث محاور
1- المحور الأول: لو فتشت القرآن من أوله إلى آخر لن تجد أن القرآن وصف نفسه بمفردة المعجزة؛ وبما أنه أنزل تحديا على الناس فهو معجزة وإن لم يصف نفسه بأنه معجزه.
وقد أخذ العلماء في المعجزة عدة قيود:
- القيد الأول: أن المعجزة هي العمل الخارق للعادة والخارج عن نواميس وسنن الطبيعة.
للتقريب: من يريد أن ينجب ذرية أو ولداً فإن إنجابه متوقف على تزاوج طرفين ذكر وأنثى وعلى إثر التزاوج يتم إنجاب الولد، وإنجاب الولد بهذه الطريقة هو عمل معتاد وهو خاضع لسنن الطبيعة ونواميسها.
ولكن أن يتمخض الجمل فيلد ناقة وفصيلتها فهل هذا عمل معتاد ؟!
هذا ما فعله النبي صالح – على نبينا وآله وعليه السلام – حيث رفع يديه ودعا فتمخض الجمل وولد ناقة وفصيلتها.
أنت لو دعوت ليلا ونهارا لن يلد الجمل فأراً فضلا عن ناقة وفصيلتها.
- القيد الثاني: أن من يأتي بالمعجزة يكون مدعيا لمقام إلهي كالنبوة.
- من يدعي أنه طبيب كيف لنا أن نتحرى عن صدق دعواه ؟ يمكن لنا أن نتحرى عن ذلك بالطرق العقلائية وهي أن يبرز شهادة موثقة تنص على أنه نال شهادة الماجستير أو الدكتوراة أو البكالوريوس في الطب.
- من يدعي أنه فقيه مجتهد كيف لنا أن نعتمد على ذلك ؟ يبرز لنا اجازة بالاجتهاد من أحد المراجع الموثوقين المعتمدين.
ولكن كيف لنا أن نتحرى عن صدق دعوى من يدعي النبوة ؟
- يحتاج النبي أن يثبت دعواه أن يأتي بعمل خارق للعادة وخارج عن نواميس الطبيعة وسننها.
- القيد الثالث: أن يكون في مقام التحدي بين قومه.
كانوا يتحدون الأنبياء:
(وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَسۡتَ مُرۡسَلا)
(قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
- هناك قيد رابع ذكره السيد الخوئي وهو أن تكون المعجزة دليلاً على صدق دعوى المدعي وليس دليلا على كذب دعواه.
مسيلمة الكذاب لما ادعى النبوة حاول أن يأتي بأمر خارق للعادة
يروى أن مسيلمة تقل في بئر قليلة الماء ليكثر ماؤها فغار جميع ما فيها من الماء ، وأنه أمر يده على رؤوس صبيان بني حنيفة وحنكهم فأصاب القرع كل صبي مسح رأسه.
هذا عمل خارق للعادة وخارج عن نواميس الطبيعة وسننها ولكنه وإن كان كذلك إلا أنه حصل كتكذيب على دعوى مسيلمة وليس تصديقه.
لذلك أن القرآن الكريم وإن لم يصف نفسه بأنه معجزة إلا أن جميع القيود تنطبق عليه فهو معجزة المعاجز.
2- المحور الثاني: هل أن القرآن الكريم معجزة لعموم البشر وللجن أم هو لخصوص العرب فقط ؟!
هنا عدة إضاءات:
- الإضاءة الأولى: السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسيره الميزان يقول أن القرآن معجز في مجموعين، فهو آية للبليغ في بلاغته، وللحكيم في حكمته، وللعالم في علمه، ..الخ ،، فتجده يطفع بالإعجاز
ومع ذلك النبي الأعظم (ص) اختار جانبا من الجوانب الإعجازية في القرآن وتحدى فيها العرب.
هناك وجوه عدة كالإعجاز بالعالم والإخبار بالمغيبات وهذا لا اختلاف فيه، ومنها الفصاحة والبلاغة.
النبي صلى الله عليه وآله اختار الإعجاز في الفصاحة والبلاغة لأن العرب إنما تميزوا لأنهم عرفوا بالفصاحة والبلاغة والأدب.
وحتى تكون المعجزة أبلغ اختار النبي التحدي فيما يبرعون به، وتحدي النبي في الفصاحة والبلاغة كان يثير حميتهم (حمية العرب).
فكان التحدي بأن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)،
عجزوا في ذلك، فتحداهم أن يأتوا بعشر سورة من مثله فعجزا أيضا، ومن ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله ومع ذلك ما استطاعوا أن يأتوا بسورة واحدة.
كانوا يسعون للقضاء على النبي بكل وسيللة، وما داموا أنهم يبرعون في الفصاحة والبلاغة وكان النبي يتحداهم في نفس المجال صارت لقمة سائغة لأنهم تحدوه في تخصصهم فردوا عليه بالسنان ولم يردوا عليه باللسان فكانت هناك حروب مستنزفة ضد النبي قدموا فيها القتلى والخسائر لأنهم عجزوا عن مجاراة النبي في القرآن الكريم.
حاول البعض منهم أن يجاري القرآن توهما فصار محلا للسخرية من الناس،
أُتِيَ خالد بن عبد الله برجلٍ تنبأ بالكوفة وقال إنه قد أُنزل علي قرآن فقال له خالد: ما قرآنك؟. قال: «إنا أعطيناك القاهر، فصل لربك وجاهر، ولا تطع كل فاجر، مغتر بالله كافر» . فأمر به خالد فضرب حتى أثخن، ثم أمر به فصلب، فقال له حمزة بن بيض الحنفي وهو يشد على الخشبة: إنا أعطيناك العمود، فأطل عليه الركود، وصلّ لربك على عود، وأنا ضامن ألا تعود.
- الإضاءة الثانية: أن القرآن الكريم لا اختلاف فيه.
- الإضاءة الثالثة: الإعجاز العلمي.
نحن لا نختلف ولا نشك على مستوى الثبوت والواقع أن القرآن فيه الإعجاز العلمي ولكن من الذي يستطيع أن يظهر ويبين هذا الإعجاز ؟!
طبعا أهل البيت عليهم السلام في المقام الأول، وفي المقام الثاني هم العلماء المختصين.
وللأسف هناك الكثير من غير أهل الاختصاص يحاول أن يبين ويكتب مقالات متوهمة ويأتيك من يتصيد في الماء العكر فيقول انظروا للمسلمين ادعوا شيئا في القرآن الكريم ثم تبين أن ما ادعوه محض وهم وخيال.
نقول العيب ليس في القرآن وإنما العيب فيك بأنك تصديت وأنت ليس في مستوى التصدي!
هذا الوباء المنتشر وهو وباء كورونا بمجرد انتشاره جاء من يدعي أن الكورونا ذكرت في القرآن الكريم !!.
يكتبها غير المتخصصين وغير الكفوئين.
في مناقب ابن شهر آشوب عن كتاب التبديل ما حاصله إن اسحق الكندي فيلسوف العراق في زمانه أخذ في تأليف تناقض القرآن فقال الإمام الحسن العسكري لبعض تلاميذه قل له حضرتني مسالة أسألك عنها:
إن هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به غير المعاني التي قد ظننت أنك ذهبت إليها فسيقول لك إنه من الجائز لأنه رجل يفهم فقل له فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه
قال له التلميذ ذلك فقال أعد علي فأعاد عليه ففكر في نفسه ورأى ذلك محتملا في اللغة
فقال أقسمت عليك من أين لك هذا
قال شئ عرض بقلبي
قال كلا ما مثلك من اهتدى لهذا فعرفني من أين لك هذا
فقال أمرني به أبو محمد فقال الآن جئت به وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت وأحرق جميع ما كان ألفه.
3- المحور الثالث: الوقفة على إشكال متعلق بالإعجاز.
البعض يقول أن تحدي القرآن للإنس والجن يكشف عن تضارب واضطراب وهو يبين ضعف في القرآن الكريم لأن الجن يعيشون في عالم مستقل عن عالم الإنس فلعلهم قد جاؤوا بمثل هذا القرآن!
وبسبب انقطاع خطوط التواصل بين عالمنا وعالمهم نحن لا نعلم عن ذلك.
حتى نفند هذا الإشكال نقف عند عدة إضاءات:
- الإضاءة الأولى: العرب في زمن النبي (ص) كاناو إذا ظهر في أحدهم نابغة من النوابغ قالوا عنده شيطانا يعينه.
العرب كانوا يتعمون كل نابغة فيهم إذا جاء بما يثير التعجب ويقولون بأن عنده شيطان يعينه وهذه الشياطين تسكن في وادي يسمى بوادي عبقر في شبه الجزيرة العربية.
- الإضاءة الثانية: هذا التحدي بنحو مباشر هل هو للإنس أو للجن ؟
للإنس في المقام الأول،
أنتم أيها الإنس تدعون أن هناك شياطين، إذن تواصلوا مع الجن وأتوا بمثل هذا القرآن وإن زعمتم أن الجن قد أتى بمثله سيظهر هذا القرآن المزعوم على ألسنتكم.
القرآن الكريم تحداكم أنتم أيها الملحدون.
- الإضاءة الثالثة: من قال أن خطوط التواصل مقطوعة ؟!
الوليد بن المغيرة لما سمع النبي الأعظم (ص) يتلو القرآن الكريم قال أن ما يتلوه محمد هو كلام لا يشبه الجن ولا كلام الإنس.
كيف ينفي الشبه إن لم يكن قد سمع كلام الجن ؟! إذن يتبين أنهم كانوا يسمعون كلام الجن فعلا وهي حقيقة غير قابلة للإنكار.
- الإضاءة الرابعة: الجن اعترفوا بعجزهم على الإتيان بما يشبه القرآن (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا)
هذا القرآن الكريم أمر يثير التعجب ولا يمكن لأحد أن يأتي بمثله ولو جاؤوا لظهر ذلك.
إذا الإعجاز تحدى به القرآن خصوص العرب وبعضها الآخر مجمل الناس وحتى نحافظ على هذا الإعجاز علينا أن نحذر تمام الحذر من التصدي لأي من الإعجازات العلمية إن لم نكن من أهل التخصص.
من يملك الأهلية في ذلك هم أهل البيت عليهم السلام.