قاعدة التدبر في الأدعية المأثورة: (التوسل) في دعاء أبي حمزة مثالا

في دعاء أبي حمزة الثمالي:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْجُوهُ وَلَا أَرْجُو غَيْرَهُ وَلَوْ رَجَوْتُ غَيْرَهُ لَأَخْلَفَ رَجَائِي

مقدمة:

لا يخفى للمتتبع لسيرة الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قام بدور عظيم على أثر واقعة كربلاء بما سببته في آثارها القريبة من قسوة في القلوب تتعلق بالدين وبطبيعة التفاعل مع أهل البيت (ع)، تلك القسوة التي لم تكن خالية من العاطفة والتعاطف إلا أنه تعاطف غير بانٍ أو صانع، ومن أجل ذلك انصبت جهود الإمام عليه السلام في ترميم الشرخ الكبير بصناعة الأمة عاطفيا بالنحو المرسخ للتوحيد في عقولهم وقلوبهم بنحو منتجٍ لا نحو ادعائي مزعوم بالانتماء للدين وأهل البيت (ع).

بناء العاطفة بالعبادة والدعاء

تركزت جهود الإمام (ع) في شأن بناء العاطفة على نحوين (العبادة بنحو عام والدعاء بنحو خاص)، وكذلك بناء العاطفة من حيث ترتيب الأثر على واقعة كربلاء وتوظيف المصيبة في ربط الأمة بالإسلام بتوليفة مازجت بين الأمرين معا، حيث أكد الإمام عليه السلام من خلال السلوك والتوظيف أنه لا يمكن للإنسان أن يكون عابدا إلا بكونه مواليا ولا يكون مواليا إلا بكونه عابدا، فالعاطفة في المتجلية البكاء في هاتين الحاضنتين المندمجتين كقالب تصنع الإنسان في طريق التوحيد بالنحو المثمر.

الدعاء منظومة عبادية ومعرفية

نستشهد بدور الإمام مع تركيزه على الدعاء المركز بالبكاء على توصيف موقع الدعاء من المنظومة العبادية والمعرفية، وقد جاء عنهم أن الدعاء مخ العبادة، أي أساسها، فهو إذا كان مخا للعبادة فهو ركيزة العبادة الأساسية وعُرِّفت العبادة من جانب آخر بالمعرفة في قوله تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) أي ليعرفون، فهي الوسيلة الموصلة للمعرفة والتوحيد.

والإمام (ع) بممارسة دوره في الهداية بإبراز التراث والكنز الدعائي ممثلاً في الصحيفة السجادية (زبور آل محمد) أراد أن يوصل الناس إلى معرفة الله عبر العبادة بنحو عام من خلال التركيز على مخها وهو الدعاء بنحو خاص. فهو مشروع هداية وترميم وتهذيب سلوكي معرفي ممزوج بدقة المعصوم، فهو أنزل الإسلام من النظرية إلى قالب عاطفي مثمر عبر البكاء والدعاء ومصيبة الحسين (ع).

إشكالية التضارب بين مضامين الأدعية والعقائد الثابتة:

مضامين الأدعية غرضها إيصال الإنسان لله، إلا أن بعض مقاطع هذه الأدعية الراقية العظيمة إذا أخذها الإنسان بنحو سطحي ساذج بمضمونها الابتدائي دون تأمل وتدبر فقد يقف على تضارب مع هذا الغرض ومع جملة من العقائد والأصول المحكمة التي لا سبيل للتشكيك فيه، كما في مقاطع الأدعية (لا تَمكُرْ بِي في حِيلَتِكَ، طلب المغفرة)، فهذه المعاني إذا لم يتم التدبر والتأمل فيها فإنها تفقد ميزة هذه الأدعية التي ينبغي أن تكون بمثابة المحفزات للـتأمل والبحث فيها للتوصل الى العقيدة الصحيحة، وقد تتسبب بأثر سلبي معكوس.

إشكالية دعاء الإمام زين العابدين (ع) وعقيدة التوسل

في دعاء الإمام (ع) (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أُنَادِيهِ كُلَّمَا شِئْتُ لِحَاجَتِي وَأَخْلُو بِهِ حَيْثُ شِئْتُ لِسِرِّي بِغَيْرِ شَفِيعٍ فَيَقْضِي لِي حَاجَتِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَدْعُوهُ وَلَا أَدْعُو غَيْرَهُ وَ لَوْ دَعَوْتُ غَيْرَهُ لَمْ يَسْتَجِبْ لِي دُعَائِي وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْجُوهُ وَلَا أَرْجُو غَيْرَهُ وَلَوْ رَجَوْتُ غَيْرَهُ لَأَخْلَفَ رَجَائِي) هذه المعاني الموجودة في دعاء أبي حمزة قد تبدو بنحو متضارب لو تلقاها الإنسان بنحو ساذج سيرى أن عقيدة التوسل باطلة لكون الإمام (ع) يصرح أن بوصلة الدعاء ينبغي أن تتجه مباشرة لله تعالى، ومن جهة أخرى فعقيدة التوسل هي توسيط الواسطة بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى، فهل يتم رفع اليد عن هذا الدعاء أو هذه العقيدة رغم ثبوتهما؟

الجواب: القاعدة الكلية (إرجاع المتشابهات إلى المحكمات):

هناك قاعدة كلية إذا طبقت في هذه المضامين فستوصلنا إلى نحو راقٍ ودقيق في فهم العقائد، ومفاد القاعدة الكلية أن آيات القرآن الكريم تحتاج إلى التدبر والتأمل في المتشابهات عبر إرجاعها لمحكمات الآيات للتوصل إلى المعاني الصحيحة، وكذلك الحال بالنسبة إلى روايات أهل البيت (ع) والأدعية والتي قد يبدو أنها متضاربة ظاهرياً مع العقائد الحقة. في القرآن الكريم (يدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)، والتي قد تُفهم على نحو التجسيم والتجسيد الباطل عقائدياً لتضاربه مع الآيات المحكمة، فيتم تأويل اليد بأنها (كناية عن القدرة).

ولتطبيق القاعدة الكلية بالنسبة للأدعية، فلا يمكن نفي مطلق الحاجة للشفيع والوسيلة والتي هي من العقائد الثابتة قطعا ويقينا، وهذه من متشابهات الروايات التي ينبغي إرجاعها لمحكماتها للتوصل لمعناها الدقيق الذي من خلاله يبين الإمام معنى راقيا في التوحيد.

تطبيق القاعدة الكلية بين الدعاء وعقيدة التوسل

الأمر الأول: ما هو شأن عقيدة التوسل؟

هل هي مهمة قطعية ظنية ثابتة؟ فاذا افترضنا أن العقيدة باطلة فلا حاجة للتأويل والتكلف في التوجيه بخصوص الدعاء، وإذا قلنا أن العقيدة ثابتة بشكل ظني أو أنها قطعية لا مجال في التشكيك فيها، فينبغي المحافظة عليها وتأويل مضامين الألفاظ بشكل منسجم معها.

الثابت أن عقيدة التوسل بالنسبة لأغلب المسلمين (عدا البعض ممن اشتبه عليه الأمور)، هي عقيدة منسجمة تمام الانسجام مع عقيدة التوحيد، فعقيدة التوسل عقيدة قطيعة أثبتتها الآيات والروايات والعقل، وهناك شاهدان عليها:

الشاهد الأول: قوله (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) فالآيات توجه المسلمين إلى التوجه للاستغفار لله، والله يوجه الأمة بتوسيط رسول الله (ص) لهم، فلو كانت عقيدة التوسل باطلة لتم توجيه الأمة بالتوسل إلى الله مباشرة دون وسيط.

الشاهد الثاني: ما أخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين (ج1 ص 707 ح1929)، أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ (ص)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ يَرُدُّ اللَّهُ عَلَيَّ بَصَرِي، فَقَالَ لَهُ: «قُلِ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ، وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، يَا مُحَمَّدُ إِنِّي قَدْ تَوَجَّهْتُ بِكَ إِلَى رَبِّي، اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فِيَّ، وَشَفِّعْنِي فِي نَفْسِي» ، فَدَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ فَقَامَ وَقَدْ أَبْصَرَ، فالتوسل لو كان باطلا لرفض النبي (ص) ذلك وطلب منه أن يتجه إلى الله ويتوسل إليه، إلا أن النبي (ص) علمه الدعاء المنسجم مع التوسل التشريعي إقرارا بالتوسل التكويني الذي قام به النبي.

الأمر الثاني: ما هو وجه الجمع بين ما ورد في الدعاء وبين عقيدة التوسل؟

الوجه الأول: مصب النظر في الدعاء في كلا الجانبين مصب مختلف ومتباين، فالتوسل يستبطن معنى أن المدعو هو الله عبر وسيلة (آلية موصلة)، والمنظور الأول هو الله، فالتوسل ينسجم مع التوحيد لكون النظر والدعاء والوسيلة هدفها الوصول إلى الله، وأما بالنسبة للدعاء فالإمام (ع) يحمد الله أنه لا يرجو سوى الله، لكون الدعاء لغير الله بنحو استقلالي بحيث يكون (الغير) هو المنظور الأول لا الله، فنتيجة هذا الدعاء عدم الاستجابة وعدم قضاء الحاجة وقد تصل إلى الشرك.

الوجه الثاني: معاني التوسل والتوسط بالأئمة (ع):

المعنى الأول: الاعتقاد بولايتهم: كشرط عام في قبول العبادة، فقد رُوِيَ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ قَالَ: قَالَ لَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع‌) أَيُّ الْبِقَاعِ أَفْضَلُ فَقُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَابْنُ رَسُولِهِ أَعْلَمُ فَقَالَ أَمَّا أَفْضَلُ الْبِقَاعِ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عُمِّرَ مَا عُمِّرَ نُوحٌ (ع) فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ثُمَّ لَقِيَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ وَلَايَتِنَا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ شَيْئاً). والتوسيط يعني الإيمان بولايتهم وبدونه لا تقبل العبادة ولا الدعاء، وهذا لا يتنافى مع مقطع الدعاء، والإشكال هو في ولاية الشيطان المتضاربة مع ولاية الله وولاية أوليائه. 

المعنى الثاني: لا يدعى الله إلا بكلماتهم، فهم الأعرف بمخاطبة الله سبحانه وتعالى، كما في الحديث عن رجل دخل على الإمام الصادق وقال (إِنِّي اخْتَرَعْتُ دُعَاءً، فَقَالَ دَعْنِي مِنِ اخْتِرَاعِكَ إِذَا نَزَلَ بِكَ أَمْرٌ فَافْزَعْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص) فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ تُهْدِيهِمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص))، فعلمه على التوسل ونهاه عن اختراع الدعاء وأن يتمسك بالمأثور عن أهل البيت (ع).

المعنى الثالث: أن يُسأل الله بحقهم وبجاههم وبعظمتهم، كما في الدعاء (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِالْمَوْلُودَيْنِ فِي رَجَبٍ) أي بحقهما بجاههما فهم وجهاء عند الله يقدمون بين يدي الدعاء لاستجلاب كرامتهم لاستجابة الدعاء.

فمخاطبة هذه الوسائل بقول (يا محمد يا علي يا حسين) من أجل استجلاب هذا التوسل فالمنظور يكون الله بدرجة أولى، والواسطة في المخاطبة إنما تكون فرعا ثانويا من غير النظر لها في نفسها، أي ينظر لها كوسائط وعلامات وأسماء لله تعالى تتجلى فيها صفاته، فالتمسك بآثار الله من جهة الأصل.

المعنى الرابع: التسلسل الوجودي وإفاضة الوجود

 كثير من الروايات تبين أن التوصل إلى الله له سلسلة رتبية تكوينية فرضتها مسألة إفاضة الوجود، فالله لم يخلق الناس دفعة واحدة وإنما خلقهم بالإفاضة ضمن تسلسل رتبي وجودي بحيث أن الأدنى وجودا يحتاج للأرفع وجودا لأنه خلق وأفيض عليه الوجود ببركاته، هذا التسلسل الوجودي الرتبي واقع تكويني، فالله غير عاجز عن خلق الخلق دفعة، إلا أن القوابل عاجزة عن استقبال الفيض الإلهي فاقتضى الأمر إفاضة الوجود بهذا النحو التدريجي، فكل يستقبل الوجود بحسبه وقدرته.

 ومن ناحية التشريع فالأمر انعكاس عن التكوين، فدعاء الله بشكل مباشر مشروع إلا أن الأكمل للتوصل إلى الله ينبغي أن يكون عبر التدرج التكويني، وأفضل الوسائط هم رسول الله (ص) وأهل بيته عليهم السلام، وهذا المعنى للتوسل منسجم تمام الانسجام مع معنى التوحيد.

الإمام (ع) يشير في دعاءه إلى تجنب التمسك بوسائط وهمية ليست لها شفاعة ولا وجاهة عند الله، أما الوسائط التي لها وقائع تكوينية فلا يتم الدعاء إلا بتوسيطها، فالوارد للاستجابة أن يبدأ ويختم الدعاء بالصلاة على محمد وآل محمد (ص)، ليكون الدعاء بين الصلاتين في موضعه الصحيح، وهذا ما نراه في مقطع الدعاء (اللَّهُمَّ إِنِّي بِذِمَّةِ الْإِسْلَامِ أَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ وَبِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ أَعْتَمِدُ عَلَيْكَ وَبِمُحَمَّدٍ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ أَسْتَشْفِعُ لَدَيْكَ)، فهذا التوسل يبين الطريق إلى الله سبحانه وتعالى بحيث يدعو الإنسان في الطريق الصحيح.

تغطية مصورة - ذكرى إستشهاد الإمام علي السجاد ( ع ) 1443 هجرية - الخطيب الشيخ علي الجفيري

تغطية مصورة - إعادة العشرة الحسينية يوم ( 24 ) محرم الحرام 1443 هجرية - الخطيب الشيخ جاسم الحداد

تغطية مصورة - إعادة العشرة الحسينية ليلة ( 24 ) محرم الحرام 1443 هجرية - الخطيب السيد علوي الشهركاني
 

تغطية مصورة - إعادة العشرة الحسينية يوم ( 23 ) محرم الحرام 1443 هجرية - الخطيب الشيخ جاسم الحداد

تغطية مصورة - إعادة العشرة الحسينية ليلة ( 23 ) محرم الحرام 1443 هجرية - الخطيب السيد علوي الشهركاني

تغطية مصورة - إعادة العشرة الحسينية ليلة ( 22 ) محرم الحرام 1443 هجرية - الخطيب السيد علوي الشهركاني

تغطية مصورة - إعادة العشرة الحسينية يوم ( 21 ) محرم الحرام 1443 هجرية - الخطيب الشيخ جاسم الحداد

تغطية مصورة - إعادة العشرة الحسينية ليلة ( 21 ) محرم الحرام 1443 هجرية - الخطيب السيد علوي الشهركاني

تغطية مصورة - إعادة العشرة الحسينية يوم ( 20 ) محرم الحرام 1443 هجرية - الخطيب الشيخ جاسم الحداد

Page 24 of 131