الحديث انطلاقاً من الآية المباركة سيكون في رحاب الإمام الحسن (ع) وسنقف من خلاله على ثلاث محطات:
1- المحطة الأولى: الكلام الإلهي اللفظي، والفعلي.
علماء الكلام يعقدون باباً تحت عنوان الكلام الإلهي، ثم يقولون إن الكلام الإلهي تارة يكون كلاماً لفظياً وتارة يكون كلاماً فعلياً،
فما المقصود من الكلام الإلهي اللفظي؟ وما المقصود من الكلام الإلهي الفعلي؟!
- الكلام الإلهي اللفظي:
كما نعلم أن الكلام لفظاً وصوتاً لا يصدر من الله تبارك وتعالى، لأن الصوت لا يصدر إلا من جسد ونتيجة احتكاك واهتزاز للأوتار الصوتية كجسدي وجسدك أنت، والله سبحانه وتعالى منزه عن ذلك.
إذاً ما المقصود من ذلك؟!
قال تعالى:﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾
قالوا الكلام الإلهي اللفظي هو على أنحاء ثلاثة:
- وحيا: الوحي هنا بمعنى الإلقاء والقذف في الروع.
﴿وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾
أترى أن الله سبحانه خاطب النحل أم أنه ألقى له الإلهام والقذف في الروع فأرشدها إلى أن تتخذ بيوتها؟!
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾.
- مِن وَرَاءِ حِجَابٍ:
النبي موسى (ع) خدم النبي شعيب (ع) عشر سنوات وقد زوج شعيبا النبي موسى بإحدى بناته ولما انتهى خدمة النبي موسى (ع) رجع مع أهله وفي الطريق مع أهله وإذا به يبصر ناراً من بعيد فرأى شجرة ينبعث منها الصوت ﴿فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾
والحجاب مصداقه الشجرة.
- يُرْسِلَ رَسُولًا: الرسول في الآية المباركة هو رسول الوحي جبرئيل (ع) فكان ينزل بأمر من الله عز وجل على الأنبياء، وبرغم نزوله المتكرر لم يشاهده النبي على خلقته الحقيقية إلا على مرتين، لأن جبرئيل (ع) كان ينزل على صورة رجل من أهل المدينة يسمى بدحية الكلبي.
وقد ورد: إن الحسن والحسين دخلا على رسول الله صلى الله عليه وآله وبين يديه جبرئيل فجعلا يدوران حوله، يشبهانه بدحية الكلبي.
لماذا كان ينزل جبرئيل بصورة دحية الكلبي؟! قالوا لأن أبدع صورة هي الصورة الآدمية،
وكان دحية الكلبي من أجمل أهل المدينة وجهاً، والله جل جلاله يريد لجبرئيل عليه السلام إذا نزل أن يكون مصدرا للفرح والانشراح، فالإنسان مفطورة على حب الجمال والنفرة من القبح.
وقد ورد: فأما جبرائيل عليه السلام فإنه كان لا يدخل على النبي صلى الله عليه وآله حتى يستأذنه إكراماً له، وكان يقعد بين يديه قعدة العبد.
إذاً الكلام اللفظي إما أن يكون وحيا بمعنى الإلقاء في القذف والروح كالنحل وأم موسى، وإما من وراء حجاب والذي حصل مع موسى في صحراء سيناء وإما أن يرسل رسولا وهو جبرئيل (ع).
- الكلام الفعلي:
إذا كانت هناك عملية جراحية بالغة الخطورة وأجراها طبيب حادق ونجح تمام النجاح في تلك العملية فهل يحتاج للطبيب أن يتكلم عن براعته؟ أم أن العملية هي من تتحدث عنه؟
الرسام البارع إذا رسم صورة جميلة فهل يحتاج أن يتحدث عن إبداعه؟ أم أن صورته هي من تتحدث عنه؟
هذه الصورة التي رسمها هي بمثابة اللسان التي تتكلم عن ذلك الرسام، وتلك العملية التي نجحت بمثابة اللسان التي تتكلم عن حدق ذلك الطبيب.
والشاعر الذي يكتب القصائد العصماء أيحتاج أن يتحدث عن شهره وفصاحته أم ديوان شعره هو من يتحدث عن براعته ؟!
وأيضاً من يصنع التحف الجميلة فهو لا يحتاج لأن يتحدث عن نفسه لأن كل تحفة يصنعها بمثابة كلمة من الكلمات التي تكشف عن براعته وكفاءته.
كذلك الله سبحانه وتعالى خلق خلقاً وكل واحد من هذه المخلوقات بمثابة الكلمات التي تكشف عن قدرة الله عز وجل.
فأنت كلمة من كلمات الله تعالى، وأنا كلمة من كلماته تعالى، والبحار كلمة من كلمات الله، والسماوات كلمة من كلمات الله، والأرضين كلمة من كلمات الله.
فكل مخلوق هو كلمة من كلمات الله تبارك وتعالى.
﴿قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا﴾
ما المقصود من الـ الكلمات في الآية المباركة؟ قال المفسرون هنا هي بمعنى المخلوقات
فكل مخلوق من المخلوقات بمثابة الكلمة التي تحكي عن صفة من صفات الله عز وجل.
والمداد هو البحر.
2- المحطة الثانية: كلمة الله التامة
هنا سؤال محوري:
إن كنت أنا كلمة فعلية لله سبحانه وتعالى، وأنت كذلك كلمة فعلية ، والسماوات والأرضون كلمات الله،،
أأكون أنا كلمة وعلي (ع) كلمة بميزان واحد، وهل أكون أنا والنبي (ص) كلمة بميزان واحد، و أيكون أنا والحسن (ع) كلمة بميزان واحد!؟
نعم أنا كلمة لكني كلمة ناقصة، والحسن بن علي (ع) كلمة لكنه كلمة تامة،
فوجودي بمثابة الكلمة التي تدل على أن الله خالق وقادر، وفي كل شيء له آية تدل عليه أنه واحد سبحانه وتعالى،، ولكن من أراد أن يتعرف على حلم الله أينظر إليَّ؟ أو من أراد أن يتعرف على كرم الله أينظر إليَّ أنا؟!
ومن أراد أن ينظر إلى حلم الله وكرمه، وقوة الله أينظر إلي أنا؟!
أبداً.
الإمام علي (ع) لما قلع باب خيبر وهو الباب الذي يعجز العشرات من الرجال عن قلعه حكى شيئا عن قوة الله فلما ضرب ضرب بيد الله ولما بطش بطش بيد الله.
أنا جزء من صفات الله ولكن إن أردت الكلمة التامة فعليك بالمعصوم.
- عن الصادق (ع) أنه قال: إن الإمام ليسمع في بطن أمه فإذا ولد خط بين كتفيه «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ» فإذا صار الأمر إليه جعل الله له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كل بلدة.
3- المحطة الثالثة: بعض صفات الإمام الحسن (ع) التي يحكي فيها عن صفات الله عز وجل.
- الحلم:
وما أحوجنا أيها الأحبة في مثل هذه المناسبات أن نأخذ هذه الصفة ونستلهمها من إمامنا عليه السلام،، صرنا لا نتحمل بعضنا بعضا، تجد أن هناك من يكيل لك السباب والشتم أو بسبب إثر سوء تفاهم تقوم الدنيا ولا تقعد،
وأصبح البعض منا شعاره مع أولاده وزوجته وأسرته ومحيطه شعار الغضب!
ما أحوجنا أن نتعلم من الإمام الحسن (ع) صفة الحلم.
القرآن الكريم وردت فيه مقررات أخلاقية، فالقرآن الكريم ينادي بالصبر ولكن هناك من يقول إن للصبر حدود، والقرآن الكريم ينادي بالوفاء وجاء البعض وقال ما ينادي به القرآن هو أشبه بالمقررات الأفلاطونية التعجيزية التي لا سبيل لها لامتثالها ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يثبت للإنسان أن المقررات الأخلاقية أمر في غاية الإمكان.
الإمام الحسن (ع) لقب بحليم أهل البيت (ع).
قال الخوارزمي: (وقيل) كان للحسن بن علي (ع) شاة تعجبه فوجدها يوما مكسورة الرجل فقال للغلام: من كسر رجلها قال: أنا قال: لم؟ قال: لأغمنك قال الحسن: لأفرحنك أنت حر لوجه الله تبارك وتعالى.
هذا العمل أقرب ما يكون إلى الخيال! فإن لم يتصرف الإمام وهو المعصوم فمن يتصرف بهذا التصرف؟!.
ويقول الخوارزمي أيضا: قال رجل من أهل الشام قدمت المدينة بعد صفين فرأيت رجلا حضرنا فسألت عنه فقيل الحسن بن علي (ع) فحسدت عليا أن يكون له ابن مثله فقلت له أنت ابن أبي طالب قال أنا ابنه فقلت له بك وبأبيك فشتمته وشتمت أباه وهو لا يرد شيئا فلما فرغت أقبل علي، قال: أظنك غريبا ولعل لك حاجة فلو استعنت بنا لأعناك ولو سألتنا لأعطيناك ولو استرشدتنا أرشدناك ولو استحملتنا حملناك. قال الشامي فوليت عنه وما على الأرض أحد أحب إلي منه فما فكرت بعد ذلك فيما صنع وفيما صنعت إلا صاغرت إلي نفسي.
ورد أن مروان بن الحكم الذي يعتبر من أعداء الإمام الحسن (ع) ومنع من دفنه عند النبي (ص) شارك في تشييع جثمانه، ومشى خلف جنازته، وممن حملها، وحينما احتجوا عليه بأنك كنت تؤذيه أشد الأذى في حياته أجابهم: إني كنت أفعل ذلك بمن يعادل حلمه الجبال.
وورد أيضا: (حمل مروان سرير الإمام الحسن (ع) فقال الحسين: تحمل سريره؟ أما والله لقد كنت تجرعه الغيظ! قال: كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال).
إذاً الإمام الحسن مصدقا لمعنى الحلم الإلهي والتسامح الإلهي فصار كلمة تامة لأنها تحكي عن صفات الله تبارك وتعالى.
- الكرم: الإمام لقب بكريم أهل البيت أيضا.
- روي عنه (ع) أنه اشترى بستاناً من قوم من الأنصار بأربعمائة ألف، فبلغه أنّهم احتاجوا ما في أيدي الناس، فردَّه إليهم.
من الذي يحكي كرم الله؟
الإمام الحسن هو من يحكي الكرم الإلهي.
أبو محمد الحسن عليه السلام هو نموذجا من الكلمات التامة لله عز وجل،
كان يحكي عن صفات الله من كرم وحلم ورحمة ونحن أحوج ما نكون إلى استلهام هذه الصفات منه عليه السلام.